"كيلو تمر" .. مشهد من الجصار في الغوطة الشرقية
لم يعلم أحد من خارج الغوطة الشرقية أبداً حجم المعاناة التي تكبدها أهالي الغوطة الشتاء الماضي ، والأسى الذي عانوه وشدّة الحصار عليهم ..
تروي لي أختي اليوم بضعاً من القصص عن أيام الحصار العصيبة ، وهي تستذكر تلك الأيام ، وقد امتنعت عن إخبارنا بما يجري في تلك الأيام كي لا تظهر بمظهر المشتكية المتبرمة ، فهم يرون أنهم في أحسن حال ، ويخافون أن تذهب الشكوى بثوابهم ..!!!!
واليوم بعد أن خفّت المحنة قليلاً بزوال وطأة الشتاء ، آن لقصص الماضي أن تخرج ..
زارتها من غير ميعاد صديقة لها من طالبات المسجد .. بعد السلام والكلام طلبت منها (تمرة) ..!!
- زوجة أخي قد ولدت ، ولا حليب لديها لترضع مولودها بسبب قلة الغذاء ، ولا يوجد في الغوطة كلها حليب طبيعي أو مجفف لنسقي الرضيعة المولودة ، وقد تركتُ الطفلة تبكي وجئت أبحث لها عن تمرة لنضعها مع القليل من الماء ، علَّ ماء التمر يرويها ويعوِّض عليها انعدام الحليب ، وقد بحثتُ في كل المحلات فلم أجد فيها شيء ، وها أنا أدور على البيوت علي أجد تمرة هنا أو هناك لأجل تلك الرضيعة الجائعة ..!!
- سأبحث علّي أجد لك ما تطلبين ..!
وبما أن المطابخ في الغوطة لا شيء فيها ، بحثت في سقيفة المطبخ (العلّيّة) علها تجد شيئاً تقدمه لتلك المرأة ..
وهناك وجدت كيساً من التمر ، كان كيساً صغيراً بالكاد يبلغ (الكيلو واحد) ..
قسمته نصفين وأعطت صديقتها نصفه وتركت نصفه ..
- خذي نصفه وسأبقي عندي نصفه ..
- لا أريد نصفه ، تكفيني تمرة واحدة لنطعم الرضيعة اليوم ..!
- وماذا عن الغد ..؟؟ خذي نصفه واتكلي على الله ...
وحمدت الله أنها وجدت كيلو تمر يعينهم في وقت الشدة ، وقد كان في محله ..
بعد أيام زارتهم إحدى القريبات تسألهم عن تمرٍ أيضاً ..
فلديهم أيضاً مولود ، ولا غذاء للأم لترضعه ، ولا حليب في الغوطة .. نفس المأساة ...
ابتسمت هذه المرة واثقة ، وأعطتهم نصف ما بقي من التمر ..
بعد أيام امرأة ثالثة كانت تبحث عن نفس الشيء .. بنتها ولدت ولا تستطيع إرضاع وليدها لقلة الغذاء ، ولا شيء يمكن إطعامه للرضيع الجائع ..!
أعطتها ما بقي ، ثم أرسلت ابنها :
- ابحث في كل مدن وبلدات الغوطة ، محلاتها ودكاكينها عن تمر، واشتريه بأي ثمنٍ كان ..
- وماحاجتنا بالتمر ؟ الكيلو بقي لدينا وقتاً طويلاً ولم نأكله ..
- ليس لنا .. بأي وقت قد تأتينا جارة أو قريبة تحتاج فنعطيها ..!!
___________________
بضعة تمرات أنقذت حياة أطفال رضع في الغوطة ..
الحصار بلغ ذروته في الغوطة حتى صار الناس يأكلون بأوراق الخضراوات لانعدام الخبز ...
يلد المولود مشرفاً على الموت ، فلا الأم تجد غذاءاً لترضعه ، ولا في الغوطة غذاء له ليأكل ، وتكفي تمرات قليلة لتبقيه على قيد الحياة ، إن بقي ..
وإن أهل الغوطة على عمومهم لا يبخل أحدهم بشيء عندما يُطلب منه ، مهما قلَّ الزاد وانعدم الغذاء ، فلم نجد من يبخل بما عنده ويقول : أنا أحقُّ بغيري وكلُّنا في الهمّ سواء ..!!!
وبعد كل ذلك تقل لي بالحرف : "الحمد لله" رغم كل شيء كان حالنا أفضل من غيرنا .. فالغوطة التي بارك الله فيها قلَّ أن تجد فيها إنسان يشتكي أو يتبَّرم أو يسخط ...!!
إبراهيم كوكي